درجت العادة في بعض البلدان العربية والإسلامية، وفي شهر الصوم بالذات، على قيام بعض "المحسنين لله"، وجازاهم الله خيراً على أية حال، بإطعام الصائمين، ومن جيوبهم "جيوب الصائمين"، على شكل صدقة يطلقون عليها موائد الرحمن، ويشعر المحسنون بعدها بمشاعر الزهو والغطرسة والخيلاء تطغى عليهم، لأنهم ضمنوا الجنة، ومرضاة الله، فيما يشعر الصائمون بحالة من الفرح الغامر والشبع المؤقت وراحة البال.
وبعيداً عن تلك الصورة الرومانسية الإيمانية والتكافلية الاجتماعية التي تحاول أن ترسمها هذه الطقوس في نفوس الناس، فإن منظر أولئك المواطنين الجائعين المحرومين، الذين باتوا لا يملكون شروى نقير وقوت يومهم وينتظرون الصدقة ولقمة الخبز ممن أنعمت عليهم سلطات الاستبداد بالمال الوفير والعز والجاه، يثير الشفقة ومشاعر التأمل والأسى في نفس المتابع قبل أي شيء آخر، ويخلق لديه أحاسيساً ممزوجة بالألم والإحباط والقلق والسخط والاحتقان، لا تزيلها كل تلك الطقوس الاحتفالية والمهرجانية الجماعية من الورع والتقوى والخشوع والاستغفار، والتي تخفي وراءها، بنفس الوقت، شيئاً كثيراً من الاستغلال والنهب واللصوصية والاحتكار. وتذكر، بآن، بالتناقضات الاجتماعية، والفوارق الطبقية، ودخول المزيد من جماهير "الأمة" المؤمنة إلى ما دون خطوط الفقر التي تستوعبهم بكل سرور وسعة صدر بحمد وتوفيق من الله. وتؤكد تلك الصور، بما لا يدع مجالاً للشك، وأولاً، على نجاح سياسات التجويع والإفقار والاستبداد التي تتبعها معظم الدول العربية والإسلامية في نهب شعوبها وإفقارها وإذلالها عبر هذه الصور المشينة السوداء وغيرها، وفشل كل البرامج التنموية والخطط الخمسية والألفية والجهنمية التي اتبعتها، وأفلحت فقط في تحويل إنسان هذه المجتمعات من مواطن مقدس له حرمته وكرامته وحقوقه الوطنية، إلى مجرد جائع يتسول لقمة العيش على أعتاب هذه المافيات.
ولا أدري، في الحقيقة، لماذا ينتظر الله على مجموعة من الأغنياء والمحتكرين واللصوص والتجار وسارقي المال العام ليتصدقوا من جيوبهم، وليطعموا له عباده الصالحين المؤمنين الصائمين ولا يوفر لعباده المؤمنين أنظمة ومناخات وبيئات تنشلهم نهائياً من حضيض الفقر والمجاعة والحرمان السبب الرئيس وراء كل الجرائم والانحرافات؟ ولِمَ لا يرسل اله لهم ملائكة تطعمهم بدل الاعتماد على شياطين المال في إطعام الفقراء المؤمنين؟ ولماذا لا يظهر أولئك الميسورون مشاعر الكرم والود والمحبة إلا في شهر رمضان؟
من المعلوم تماماً أن اللوبيات الأصولية المتورمة في قلب هذه المجتمعات هي التي تقف وراء معظم هذه الحفلات الإطعامية للبلف والنصب وتخدير الناس والاحتيال عليهم، فإذا كان شعار الإسلام هو الحل الذي ترفعه الجماعات الدينية إياها، سيـُجسد على هذه الشاكلة المتواضعة والبدائية من إدارة شؤون الدولة وتسيير أمور الناس، وهكذا على البركة والسبحانية والتجليات والصدقات، فبئسه من شعار، ولا بارك الله فيه على الإطلاق، ولا قيض له البقاء والحياة، إذا لم يترافق مع برامج علمية وعملية شاملة وصارمة للضمان الاجتماعي العام تكرم الإنسان وتمنع عنه كل هذه المظاهر من المهانة والإذلال. فهذه المظاهر وغيرها من صور الصدقات، لا توحي، البتة، إلاّ وكأن الناس قد أصابتهم النوائب والأوبئة وكوارث بيئية وبراكين وفيضانات ويعيشون كطفيليات عاطلة عن العمل والإنتاج ولا مصدر دخل ورزق لها وفي العراء، لا في أوطان مفترضة تعمل جاهدة على تكريم أبنائها ورفع مستواهم المعيشي باطراد وتحصنهم من المجاعات.
حسناً، وإذا كانت نخوة هؤلاء الأغنياء والمافيات وحميتهم الخيرية تتحرك في شهر رمضان، فماذا عن بقية أشهر السنة، وأيام العام الأخرى حيث يعاني هؤلاء الفقراء والجائعون من البؤس والقلة والإملاق وهم بحاجة دائمة للغذاء والتعليم والصحة والتدفئة والدواء ؟ وماذا هم فاعلون مع عائلاتهم وأطفالهم بدون أولئك المتصدقين المحسنين الكرام؟ أم هل قدر هؤلاء المؤمنين البائيسن ولقمة عيشهم، أن يبقى معلقاً على مكرمات وصدقات الأغنياء والمافيات؟ هل هذا من عدالة السماء؟ ومن أين سيأكل ويشرب هؤلاء المحرومون طيلة أيام وشهور السنة الباقية بعد أن تنكرت أنظمة الطغيان لآمال شعوبها واحتياجاتها وأحلامها وقلبت لهم ظهر المجن وتركتهم لوحدهم يواجهون مصيرهم وجهاً لوجه مع نهم وجشع وتغول لصوص المال العام والمافيات ؟ ولماذا لا تشمل تلك الصدقات من الخيرين والمحسنين الذين أنعمت عليه سياسات النهب والتشليح المنظم بتلك المليارات مناحي الحياة الأخرى كالتعليم والصحة، وفي غير شهر رمضان، إذا كان قلبهم فعلاً على هؤلاء الناس والعباد؟
الصدقة تجوز على الفقراء والمساكين والمحتاجين وأبناء السبيل واليتامى، فهل تحول هؤلاء المواطنون إلى هذه الفئات الدنيا من المجتمع ونزعت عنهم نهائياً صفة المواطنة المقدّسة التي يجب أن يتحلى بها المواطن وتكون رصيداً وعامل حماية له من "غدر" الزمان كما هو معمول به في بعض المجتمعات المدنية المتحضرة، وتكون هذه المواطنة الضمانة الوحيدة للعيش في مجتمع تسوده قيم العدالة والمساواة لا قيم التصدق والتسول والإطعام وبدل هذه الحلول الغوغائية والارتجالية الاحتفالية الزائفة المؤقتة التي لا تغني ولا تسمن من جوع؟
الأصل، وإن كانت تلك المافيات تبتغي وجه الله حقاً، فهو أن توزع الثروات الوطنية، ومصادر الدخل القومي الأخرى جميعها بالتساوي، وبشكل دائم ومستمر لا آني ووقتي، وعلى عموم المواطنين. وألا يتصدق مواطن على آخر من منطلق فوقي واستعلائي وبما فضلنا بعضاً على بعض فالتفضيل ليس من أصل الأشياء وإنما الأصل ومنطق الأشياء هو في العدالة والمساواة. وألا تذهب تلك الثروات القومية والوطنية إلى جيوب فئات نهبوية قليلة واحتكارية وعبر طرق ملتوية شتى، لتعود وتتم عملية غسل أموال دينية، هذه المرة عليها، عبر ماكينات الدعاية الفقهية وأدواتها من الشيوخ والوعاظ تبررها وتجملها وتحللها (من الحلال)، ولا تشير البتة إلى مصادرها المريبة، لا بل وتسبغ عليها طابعاً إيمانياً مقدساً من خلال هذه الحركات البهلوانية السطحية القرعاء.
عمليات الفرز الطبقي الحاد جارية على قدم وساق في هذه المجتمعات التي لم تعرف بعد كيف تتلمس طريقها نحو العدالة الاجتماعية والتمدن والمساواة، وموائد الرحمن تلك هي إحدى أهم تجليات عمليات الفرز تلك. وهي، من جهة أخرى، محاولة مفضوحة وبائسة من قبل المافيات بعد أن شبعت وأترعت من النهب الحلال لمفاصل الاقتصاد، وللسيطرة والتحكم بمشاعر السخط وامتصاص شحنات النقمة والاحتجاج التي تراكمها هذه المجتمعات يومياً، وتحاول موائد الرحمن العامرة أن تفرغها من مضامينها الثورية والطبقية وتضحك على ذقون الفقراء وذلك بأن ترمي لها مما في جيوبها من "فكة وفراطة"، وبقية باقية من فضلات وفتات.